سيرة حياة قداسة البابا كيرلس الرابع

قداسة البابا كيرلس الرابع البابا المائة وعشر أبو الإصلاح

نشأته:

وٌلد عام 1816 م. (1532 ش.) بقرية نجع أبو زرقالي من بلدة صوامعة سفلاق المعروفة بالصوامعة الشرقية، بإقليم أخميم، محافظة جرجا، يلقّبه البعض "الصوامعي".

وُلد من أبوين تقيّين، كان أبوه توماس بن يشوت مزارعًا غنيًا، وكان متعلمًا ودارسًا للكتاب المقدس اتسم بالروحانية واهتمامه بخلاص نفسه وخلاص أولاده. وكانت أمه تقية.

قيل أنه بعد سيامة ابنه بطريركًا صعد البابا كيرلس من سلم آخر غير السلم العام في مقرة البطريركي، وإذا بأبيه جالس ولم يقف لتهنئته فعاتبه. أجابه والده قائلًا: "علام أهنّيك وقد كنت مطالبًا أولًا بنفسك، وأنت اليوم مطالب بأمّة بأسرها؟ ألم تقرأ ما جاء في دانيال "جعلتك رقيبًا علي شعبك وأطلبهم منك".

هذا ما حدث أيضًا مع البابا مقارة الأول (البابا 59) الذي بكت عليه والدته وندبته حين زارها، واشتهت لو أنه دخل عليها محمولًا علي نعش عن أن يكون بطريركًا.

تعلم في كُتّاب القرية الملحق بالكنيسة وتعلم فيه مع كافة أولاد القبط المزامير والتسبحة والقراءات الكنسية واللغة القبطية واللغة العربية ومبادئ الحساب.

حبه للوحدة في صباه:

شبّ داود (صاحب السيرة) قوي البنية مفتول العضلات، يفضّل ممارسته للخلوة والوحدة، طالما انفرد يقضي أغلب أوقاته في التأملات بعيدًا عن القلق والارتباك فى المشاكل .

لم يمنعه تعليمه من معاونة أبيه في أعماله الزراعية الخشنة بين الرياض والهواء الطلق. اختلط بالعربان وتعلّق بركوب الخيل والجمال وكان يسابقهم فأحبوه، وكثيرًا ما كان يرافقهم في أسفارهم في الجبال والقفار. هذا كله لم يدفعه إلي محبة العالم بل إلي الزهد فيه، فصار يهوى الوحدة أكثر فأكثر فاشتاق بالأكثر إلي الرهبنة.

الزي البدوي:

حاول بعض مقاوميه مهاجمته بالقول بأنه بدوي الأصل، وقد اعتمدوا علي صورته المشهورة وهو راكب الجمل الهجين بزي بدوي، لكن تصدّى كثيرون من معاصريه للرد عليهم. ويروي توفيق إسكندر في كتابه "نوابغ الأقباط ومشاهيرهم في القرن التاسع عشر، الجزء الثاني" ثلاثة حوادث تقترن بهذا الزي البدوي:

1. خرج البابا كيرلس الربع في إحدى السنوات قاصدًا دير الأنبا أنطونيوس مع بعض الرهبان وغيرهم واصطحب بعض العرب كعادته، حدث أن طمع شيخ هؤلاء العرب في البابا ومن معه، وإذ أدرك البابا ذلك أراد أن يردعه قبل أن يسيء التصرف. ففي ليلة حالكة الظلام وقفت القافلة للراحة. بعد فترة خرج الشيخ من خبائه وتوغل في البادية لقضاء حاجة فاقتفى البابا أثره وهو مرتدي ثيابًا بدوية، وإذ كان قوي القلب والذراعين فاجأ الشيخ بالقبض علي سلاحه الذي في يده وأمره أن يخلع ثوبه الخارجي، فارتعب الشيخ وبدأ يخلع ثوبه، لكن البابا فاجأه بالكشف عن شخصه وأعلن له أنه إنما فعل ذلك من قبيل الدعابة، أدرك الشيخ قوة شخصية البابا وتكوّنت بينهما صداقة حميمة، إذ أعجب بشخصه وحسن سياسته. (ستجد المزيد عن هؤلاء القديسين هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام السير والسنكسار والتاريخ). وقد روي الشيخ نفسه ما حدث لمن حوله مظهرًا إعجابه بشخصية البابا.

2. احتاج وهو رئيس لدير الأنبا أنطونيوس لشراء مواشي من جهة المنيا، فاصطحب بعض الأعراب المعينين لحراسة العربا وارتدى زيّهم وقصد تلك الجهة وبعد شراء المواشي عرج علي ياكوبوس أسقف المنيا ليأوي عنده الأعراب. وقيل أن هذا الأسقف كان جبار شديدًا لكن جاءه الأعراب فقابلهم بالترحاب ظنًا أنهم جميعًا أعراب وذبح لهم وأكرمهم، وبعد انصرافهم قال القس داود إلي الأسقف "أنا داود بقيت لأشكرك". فهاج الأسقف جدًا واستنجد بخدمه لكن القس داود لحق بأصحابه وسار جمعيهم معًا.

3. بعد إقامته بطريركًا نزل في دار ابن عمه ببلده بوش ويدعي المعلم أنطونيوس عبد الملك، فجلس يوما بفناء الدار وكان يرتدي ملابس الأعراب وإذا بجماعة جاءوا إلي المعلم أنطونيوس وادعوا أنهم قسوس كنائس معينة وإذا رأوا الجالس بالفضاء ضيفا إعرابيًا صاروا يتحدثون معه وادعوا أنهم أصدقاء البابا البطريرك وأنه يجلهم ويحترمهم فسألهم أن ينتظروا قليلًا وظنوا أنه قام ليحضر لهم ما تجود به نفسه لخيرهم، ثم عاد إليهم بملابسه البطريركية وهو يقول لهم: "هأنذا صديقكم البطريرك".

رهبنته:

في عام 1553ش إذ بلغ حوالي الثانية والعشرين ذهب إلي دير القديس أنبا أنطونيوس ولبس ثياب الرهبنة علي يد رئيسه القمص أثناسيوس القلوصني. فوثق به وكان متى اضطر إلي مغادرة الدير يترك تدبير أمور الرهبان في يده إذ شاهد فيه الأهلية والاقتدار والغيرة الحقيقية علي مصلحة الدير والرهبان، وإن كان هذا قد أثار نوعًا من التذمر.

اهتم في الدير بالاعتكاف علي الدراسة وكان يحث الرهبان علي ذلك بروح التواضع.

سمع عنه البابا بطرس الجاولى فاستدعاه وباركه كما باركه الأنبا صرابامون الشهير بأبي طرحة وتنبأ له بمستقبل باهر في خدمة الشعب. وربما منذ ذلك الحين اتجهت الأنظار إليه عند خلو الكرسي المرقسي.

رئيس دير القديس أنبا أنطونيوس:

في عام 1556ش حيث بلغ الرابعة والعشرين تنيّح رئيس الدير وأجمع الرهبان علي اختياره رئيسًا، فحقق لهم البابا بطرس الجاولي طلبتهم ورسمه طرس قسًا باسم داود.

في أثناء خدمته في الدير تحوّل الدير إلى مجتمعٍ متكاملٍ عاملٍ عامرٍ حتى لم يجد الرهبان سببًا لمغادرته. ووجه أولًا عنايته إلى التعليم، ففتح كتابًا في بوش ومكتبة في عزبة الدير جمع فيها كل ما امتدت إليه يداه من كتب ومخطوطات، وشجع الرهبان على القراءة وطلب العلم.

بذل كل الجهد لكي لا يترك الرهبان الدير إلا عند الضرورة مع العودة السريعة. لقد آمن بهذا الفكر لذا عندما صار بطريركًا أصدر قرار بمنع الرهبان من الخروج من الأديرة إلا بأذن منه التزامًا بما تعهدوا به أمام الله والناس. ومن أقواله في هذا ما معناه: "من يختار ثوب الرهبنة مات عن الدنيا ودفن نفسه بمحض إرادته، بدليل أنهم يصلّون عليه صلاة الموتى؛ فهل يخرج ميت من قبره؟ الرئيس الذي يأذن للراهب في الخروج من ديره يكون قد أخرج ميتًا من قبره وعليه وزره".

اهتم بالتعليم بإنشاء مكتبة بعزبة الدير لخدمة جميع المتردّدين عليها من الإكليروس والرهبان والشعب. كما أسس في بوش مدرسة لتعليم شبان الأقباط اللغتين العربية والقبطية، وكان يشرف عليها بنفسه، ويقدم مكافآت للمجتهدين فيها، وكان يضرم مداليات ذهبية وفضية يوزعها عليهم.

لم يخجل من الحضور مع الشبان في المدرسة ليتعلم معهم.

من نوادره إنه اعتاد التفتيش ومباشرة شئون الزراعة وذلك في وقت هياج العربان وبطش سعيد باشا بهم عام 1272ه، وفي الطريق صادفه إعرابي وكان القس داود رئيس الدير راكبًا دابته ومرتديًا لباسًا بسيطًا جدًا. قال له الأعرابي: "أنزل يا نصراني". أجابه الرئيس: "ليس لك مطمع في لباسي لأنه لا يساوي فلسًا"، واستعطفه أن يتركه لكن الإعرابي ازداد خشونة وغطرسة وقال له: "أتبقى راكبًا وأنا ماشٍ؟" أجابه: "دعني وشأني". فما كان من الأعرابي إلا أن لطمه علي وجهه وهو يقول "أنزل يا نصراني يا ملعون". ملك القس داود نفسه ولم ينزل عن الدابة وإذ حاول الإعرابي إنزاله بالقوة لم يستطع، بل في محاولته زلقت رجله في بركة ملآنة طينًا، وكان الممر ضيقًا فتركه القس داود وهو ملهي في غسل ثيابه. جاء الأعرابي إلي العزبة يطلب مقابلة الرئيس ليشتكي له الراهب الذي غرسه في الطين بلا سبب. فسأله: "أحقا ما تقول؟" أجابه "نعم"، قال له أنظر إليَّ! أنا هو من تشتكيه، وأنت الذي لطمتني، ومع هذا فإني أسامحك وأعطيك نصف أردب قمحًا وشعيرًا، فخجل الأعرابي منه جدًا.

سفره إلي أثيوبيا:

حدث خلاف ديني بين مطران أثيوبيا القبطي وبين الكهنة الأثيوبيين إذ حاولت بعض الإرساليات زعزعة عقيدتهم الأرثوذكسية، وقد تقربت مقابل السماح لهم بالعمل في كل البلاد وسحب الكهنة من ارتباطهم بالكنيسة القبطية.

حاول البابا بطرس الجاولي أن يذهب بنفسه لكنه لم يستطيع فأرسل القس داود الذي كاد أن يحل المشكلة لولا تدخل بعض رجال الدول الأوربية خاصة قنصل إنجلترا لصالح الإرساليات.

إذ طال بقاؤه طلب من البابا العودة فلم يسمح له النجاشي بمغادرة أثيوبيا، وأخيرًا أذن له بذلك بعد أن قضى سنة وبضعة أشهر. عاد إلي القاهرة بعد نياحه البابا بطرس بشهرين ونصف في عام 1852 م.

هكذا كان القمص داود مكلفًا من قِبَل البابا الجاولي لإصلاح الخلاف الذي اصطنعه الإنجليز بين مصر والحبشة. وكأن الله يُعده لكي يتبوأ رئاسة الكنيسة باشراكه في أمور الدولة وعلاقاتها الخارجية منذ أن كان راهبًا.

ترشيحه للباباوية:

في برمهات عام 1568ش حضر الأساقفة إلي العاصمة للتداول مع الأراخنة علي اختيار البابا وكان اسم القس داود أول المرشحين بناء علي وصية البابا بطرس الجاولي. لكن البعض اعترض لعدم علمهم إن كان لا يزال في أثيوبيا حياّ أم قد رقد، ورشّح البعض الأنبا أثناسيوس أسقف أبوتيج، ورشّح الغالبية أنبا يوساب أسقف جرجا وإخميم (بخلاف الأنبا يوساب الأبح).

عند وصول القس داود إلي القاهرة في 17 يوليو 1852 م. بعد غياب ثمانية عشر شهرًا، تلقّاه الشعب بفرحٍ شديدٍ واحتفلوا بقدومه احتفالًا جليلًا، ونزل بدار البطريركية، واتّفقت كلمة الأكثرية علي سيامته، واضطر بعض الأساقفة علي قبول ذلك. ورفعوا عريضة إلي عباس باشا حلمي الأول لإصدار أمره بالاعتماد، التجأ الوالي إلي العِرافة كعادته، فقال له العرّافون أنه إذا صار القس داود بطريركًا ستكون أيامه كلها خصومات وضيق، وتنتهي بموت الوالي وتمزيق شمل أتباعه. اضطرب الوالي جدًا واعترض علي سيامته تمامًا.

الأسقف يوساب:

لجأ أتباع الأسقف يوساب إلي حيلة بأن يجتمعوا ليلًا ويقوموا بسيامته سرًا، فيقف الكل أمام أمر واقع. سمع المحبون للقس داود، فجاءوا ليلًا وأخرجوه من بالكنيسة وأغلقوا أبوابها وأقاموا حُراسًا أثيوبيين، ثم اشتكوا للحكومة تصرف حزب الأسقف يوساب وطلبوا سيامة القس داود إرضاء للشعب. أحالت الحكومة الأمر إلي الأنبا كبريل ورتبيت الأرمن لحل المشكلة.

جاء قس أثيوبي إلي مصر ليشتكي داود لدي البابا، إذ وجد البابا تنيّح وعلم بترشيح القس داود بطريركًا أثار إشاعات كثيرة منها أنه قد شوّه صورة الحكومة المصرية لدي النجاشي الأمر الذي أثار عباس باشا ضده.

إذ دام الخلاف عشرة أشهر اقترح الأنبا كبريل ورتبيت الأرمن ومناصرو القس داود سيامة مطرانًا عامًا لكل مصر تحت الاختبار- كما فعل البابا مرقس الثامن - واحتالوا على الخديوي بذلك لكي يبدّدوا خوفه، وقد تم ذلك في 10 برمودة سنة 1569 (1853 م).

مطران عام:

إذ سيم مطرانًا عامًا باشر إدارة البطريركية، فبدأ ببناء كلية بجوار الدار البطريركية، وهي أول مدرسة أهلية للأقباط في القطر المصري، ضمّت تلاميذ من كل المذاهب والأديان بلا تميّز، الأمر الذي خلق ارتياحًا عامًا وسط الشعب، بل في الجو الحكومي وشعر الكل بصلاحيته لمركز البطريركية.

سيامته بابا وبطريرك الكرازة المرقسية:

سرعان ما انضم المعارضون إلى محبي المطران العام لما رأوا فيه من همّة قوية للعمل والإصلاح، وفي ليلة الأحد 11 بؤونة 1579ش (1854 م) تم إقامته بطريركًا وكان الكل متهللين. وحضر جميع الأساقفة فيما عدا أسقفيّ إخميم وأبي تيج. وقد تبوأ السُدة البطريركية بعد أن مكث مطرانًا عامًا لمدة سنة وشهرين.

الاهتمام بالتعليم:

ما أن وجد البابا كيرلس الرابع نفسه المسئول الأول عن الشعب حتى جعل التعليم اهتمامه الأول في وقت كان حكام مصر من الإنجليز والأتراك يتبنون القول: "أن الشعب الجاهل أسلس قيادة من الشعب المتعلم". كان يشغله الجانب التعليمي، فاهتم بإحضار أساتذة ماهرين، وإعداد برنامج تعليمي على النسق الأوربي، وكان اهتمام البابا موجهًا أساسًا إلى بناء الشخصية، مشدّدًا على حسن تربية الأولاد، مؤمنًا بأنه لا يمكن للكنيسة أن تنمو إلا برجال المستقبل المتعلمين.

أنشأ البابا المدارس والمكاتب لصنوف المعرفة واللغتين القبطية والعربية وأصول الديانة وقواعدها. وجعل المدارس مفتوحة أمام الجميع، وأنشأ مدرسة الأقباط الكبرى بالأزبكية بجوار الكنيسة المرقسية الكبرى.

كان التعليم مجانًا، يقدم لهم الكتب والأدوات المدرسية مجانًا، وبذلك سبق الحكومة في هذا المضمار بأكثر من قرن من الزمان. وكان يباشر إدارة المدرسة بنفسه، فأوجد حجرة خاصة له في المدرسة حيث كان يفتقد المدرسة يوميًا، وكان يحضر بنفسه مع الطلبة منصتًا للأساتذة.

ومما زاد البابا اهتمامًا بالتعليم القبطي أن الخديوي سعيد فتح المجال للإرساليات الأجنبية في مصر، فجاءت الإرسالية الأمريكية من الشام في الوقت الذي نشطت فيه الكنيسة البروتستانتية.

جاء في كتاب مصباح الساري ونزهة القاري لإبراهيم الطبيب ببيروت عام 1282ه، في حديثه عن مصر ومدارسها:

[وفي حارة الأقباط مدرسة عظيمة يعلمون فيها اللسان القبطي القديم والتركي والإيطالي والفرنساوي والإنجليزي والعربي.

وهم يقبلون فيها من جميع الطوائف وينفقون على التلاميذ من مال المدرسة. وهذه بناها البطرك كيرلس القبطي، وأنفق عليها نحو ستمائة ألف قرش، وكل هذا بخلاف ما تعهده في بلادنا من الإكليروس وأوجه الشعب.]

أنشأ أيضًا مدرسة وكنيسة في حارة السقايين.

واهتم أيضًا بإنشاء مدرسة لاهوتية للشبان حتى يمكن سيامة كهنة متعلمين... وإن كانت لم تدم هذه المدرسة.

لأول مرة أيضًا نسمع في عهد هذا البابا العملاق عن اهتمامه بطبقة مرتّلي الكنيسة من ناحية الألحان ومردات الكنيسة، بل وجعل لهم زيًا خاصًا. ولكي تكتمل الصورة الثقافية التي تبنّاها.

دار للكتب:

أراد أن يقيم مكتبة أو دارًا للكتب خاصة، وأن سلفه البابا بطرس الجاولي كان يعشق الدراسة، فيقضي أوقاتًا طويلة بين الكتب، وقد جمع كثير من المخطوطات. وقد تحدث القمص عبد المسيح المسعودي عن اهتمام البابا كيرلس بالمكتبة. وأن البابا كان يود أن يخصص موظفين للمكتبة لخدمة الجمهور. وقد طالب القمص عبد المسيح السعودي وهو يُعد قائمة بالكتب أن يرد الذين استعاروا كتبًا إلى المكتبة. وقد طالب بعدم إعارة المخطوطات بالمرة إلا بإذن من البابا نفسه مع دفع تأمين كبير. كما طالب بعمل معرض للمخطوطات النادرة القديمة...

شراء مطبعة:

رأى أن يشتري مطبعة لنشر الفكر، وهي المطبعة الثانية في مصر بعد المطبعة الأميرية التي اشتراها محمد علي أيام ولايته. وأرسل مجموعة من الشباب للتدريب على الطباعة في المطبعة الأميرية بموافقة الخديوي، وطلب من وكيل البطريركية استقبال تلك المطبعة عام 1860 م. استقبالًا حافلًا، بالكهنة والشمامسة بالملابس الكهنوتية والألحان الكنسية إذ كان البابا في ذلك الوقت في الدير. وقد علّق البابا على هذه المطبعة وعلى استقبالها بقوله: "لست أُكرِّم آلة من الحديد ولكني أُكرِّم المعرفة التي ستنتشر بواسطتها". ومن أول الكتب التي طبعتها هذه المطبعة "القطمارس الدوار" katameooc و "خطب ومواعظ أولاد العسال" ثم بعد ذلك "جريدة الوطن".

ديوان لإدارة البطريركية:

من ناحية تنظيم أمور الكنيسة فلأول مرة نسمع عن أمر إنشاء سجلات لحصر أوقاف الكنيسة والعمل على تنظيمها وضبطها والاهتمام بالكهنة وأُسرهم وإيرادات الكنائس وضبطها. فقد أنشأ ديوانًا لإدارة البطريركية، ووضع له قواعد دقيقة حتى لا يتصرف نظار الأوقاف بغير نظام. وقد قسّم الإدارة إلى قسمين، أحدهما يختص بالإشراف على الأوقاف ومحاسبة النظار وتقديم حسابات الإيرادات والمصروفات. والقسم الآخر يختص بالأعمال الدينية والشرعية يقوم بمباشرته أحد القسوس مع مطران مصر. وكان هو المشرف على كليهما.

وطنيته وزيارته لأثيوبيا:

من الناحية الوطنية كان البابا كيرلس الرابع صديقًا لعلماء الأزهر وشيوخه والشيخ الأكبر، وكان يعقد معهم حلقات ومناظرات علمية وفقهية ولاهوتية في جو من الألفة والمحبة والسماحة.

ولا يفوتنا أن نذكر أنه في عصر حِبْريّة هذا البابا العظيم صرّح الخديوي سعيد للقبط بدخول الجيش وتطبيق الخدمة العسكرية عليهم أسوة بالمسلمين، وذلك اعتبارًا من أول يناير سنة 1856 م. بعد إلغاء الجزية المفروضة على الذميين في ديسمبر سنة 1855 م.

كوطني أيضًا سافر إلى أثيوبيا في آخر مسرى سنة 1572ش (1856 م) لحل مشكلة الحدود بين مصر والحبشة موفدًا من قبل سعيد باشا. صحبه اثنان من الأتراك من قبل الحكومة، فانتهز الفرصة وتعلم في رحلته الطويلة اللغة التركية.

كان البابا يخشى سطوة النجاشي ثؤدورس. لكن استقبله النجاشي بحفاوة، وكان لوجوده مع النجاشي في أثيوبيا أثره الكبير في إحلال الصداقة محل العداء.

غير أن بعض السياسيين الإنجليز كانوا يكيدون له انتقامًا إذ أدركوا سعيه في إخفاق نفوذهم في أثيوبيا أثناء زيارته الأولى، كما كانوا يخشون رغبته في اتحاد الكنائس الأرثوذكسية، واتهموه أنه يود أن تكون تحت حماية روسيا. كما قيل أنه أراد الاتحاد مع الكنيسة الأسقفية الإنجليزية. بالرغم من محاولة إنجلترا الإيقاع بين الخديوي والبابا وأيضًا بين النجاشي والبابا، ولكن باءت المحاولتين بالفشل بفضل الرعاية الإلهية وحكمة البابا.

بذل الإنجليز كل الجهد لتشكيك سعيد باشا في نيّة البابا وسألوه ألا يحل الخلاف مع أثيوبيا إلا بتوجيه الجيوش المصرية نحو الحدود بينه وبين أثيوبيا. توجه سعيد باشا إلى الخرطوم، وفي نفس الوقت حاول أصحاب الدسائس تأكيد أن نيّة البابا غير سليمة وأنه إنما جاء لكي يشغل النجاشي عن الحرب فيهب عليه سعيد باشا ويستولى على أثيوبيا. إذ تحركت الجيوش نحو الحدود اغتاظ النجاشي وفكر في قتل البابا لولا تدخل الملكة ورجال القصر وطالبوه بالتريّث والتحقق من الأمر.

أرسل البابا إلى الباشا يبلغه بأن رسالته كادت تنجح لولا تحرك جيوشه وطالبه برجوع الجيش. عندئذ أدرك النجاشي صدق نيّة البابا واعتذر له.

وقّع النجاشي على معاهدة وسلّمها للبابا الذي استأذنه بالعودة، فقدم له وللباشا هدايا كثيرة، وعاد البابا إلى القاهرة في يوم السبت 7 أمشير 1574ش بعد غيابه سنة ونصف تقريبًا، وجاء معه كاهن النجاشي الخاص ووزير أثيوبي حاملًا نص الاتفاق للتوقيع عليه رسميًا من عزيز مصر.

بسبب الاحتفالات التي يصعب وصفها ورفع الصليب في المواكب في الشوارع امتعض الوالي، ووجد الواشون فرحتهم للتنكيل بالبابا، وأثار الإنجليز الخديوي ضد رفع الصليب أمام حفل استقبال البابا عند عودته من أثيوبيا. ورفض الوالي مقابلة البابا بالرغم من تردده مرارًا.

اهتم أيضًا بتجديد الكنيسة المرقسية الكبرى، فبعد ثلاثة أشهر من عودته أمر بنقض المبنى القديم ووضع الحجر الأول في الأساس بحضور رجال الدولة، وكان يسرع في البناء حتى تنيّح وقام خلفه البابا ديمتريوس بإكمالها.

تعليم البنات واهتمامه بالأسرة والأطفال:

أدرك البابا أهمية دور المرأة خاصة في تربية الجيل الجديد. اهتم بتعليم البنت كأُم للمستقبل ولكي يكون هناك توافق فكري وثقافي بين الفتاة والشاب، فأنشأ أول مدرسة للبنات في حارة السقّايين، وذلك نصف قرن قبل أن يدعو قاسم أمين إلى تعليم المرأة، وانضمّت إلى المدرسة بنات من الأقباط واليهود والمسلمين فهو أب للجميع.

كان البابا كيرلس الرابع هو أول من سنَّ قانونًا يحدد سن زواج البنت، إذ قرر عدم تزويجها أقل من 14 سنة، في ذاك العصر الذي كانت فيه الفتاة تتزوج في الحادية عشر من عمرها، وكان بذلك أيضًا سابقًا في مجال القوانين المدنية والتشريع المدني بمائة عام. وأنشأ مجلسًا لحل المشكلات الأسرية، وهو نواة المجلس الإكليريكي الآن.

كما أنه كنسيًا اشترط اعتراف العروسان اعترافًا صريحًا وشخصيًا أمام الكاهن بالرضا والموافقة على الزواج قبل إتمامه، كما أنه اشترط أن تكون هناك فرصة قبل الزواج يدرس فيها الطرفان بعضهما البعض، فإن اتفقا يُعقَد الزواج وعقد الأملاك.

أمام المدّ الأجنبي النازح لمصر اعتاد البابا أن يلتقي أسبوعيًا مع شعبه والكهنة موقنًا أن الإصلاح يبدأ برجل الدين وينتهي إلى الطفل، وفي نفس الوقت يبدأ بالطفل وينتهي برجل الدين.

اتحاد الكنائس:

كانت شهوة قلبه هو اتحاد الكنائس الأرثوذكسية، فبذل كل الجهد للاتحاد مع الكنيسة اليونانية التي كانت بدورها تضم الكنيسة الروسية. وكان حريصًا مع الاتحاد أن تحافظ الكنيسة على عقائدها وتقاليدها.

كانت علاقته بالكنائس غير الأرثوذكسية طيبة للغاية، نشأ بينه وبين رؤسائهم مودة وتبادل ثقة. فاُتهم بأنه يطلب حماية الدول الأجنبية مما أثار الحكام ضده.

كانت علاقته بالكنيسة الأسقفية الإنجليزية طيبة للغاية. وكانت الأخيرة تود مساعدة الكنيسة القبطية في إعادة الكنائس والمعاهد والمدارس التي هدمها الدراويش.

أعمال أخرى:

في عصره نجح مطران القدس الأنبا باسيليوس في الحصول على حكم تثبيت ملكية القبط لدير السلطان في القدس بأمر السلطان عبد الحميد.

من ناحية عمارة الكنائس والأديرة تم في عصره تجديد الكنيسة المرقسية الكبرى واستمرت مقرًا له، ووضع حجر أساس لبناء جديد بعد هدم مبناها القديم الملحق ودعا رؤساء الكنائس وكبار رجال الدولة للحفل.

نياحته:

اتفق أن خرج البابا كيرلس مع بطريرك الروم والأرمن الأرثوذكس إلى دير أنبا أنطونيوس ترويحًا للنفس، فوصلوا إلى بوش بالقرب من بني سويف، في عزبة الرهبان، ليقضوا أيامًا حتى تأتي القافلة فينطلقوا إلى الدير. لأول مرة نسمع عن إيجاد وحدة بين الكنائس، فعقد أول اجتماع مع بطريرك الروم وبطريرك الأرمن الأرثوذكس في دير القديس العظيم الأنبا أنطونيوس.

استغل جنرال مري قنصل إنجلترا الفرصة وسار إلى مقر سعيد باشا يخبره بأن البابا ذهب إلى الدير ليقيم تحالفًا مع الطوائف الأرثوذكسية، ويجعل من نفسه بطريركًا عليهم، وبهذا يصير البابا تحت رعاية روسيا. وأن الأمر خطير للغاية بالنسبة لسلامة مصر.

اغتاظ سعيد باشا وأرسل يعقوب بك مدير بني سويف يطلب منه سرعة عودة البابا. بعث البابا رسالة إلى سعيد باشا يوضّح له أنه ذاهب إلى الدير وأنه عند العودة سيمثل بين يديه مما أثار حفيظة الخديوي ضد البابا.

لاحظ أيضًا أن البابا أعاد استخدام التقويم القبطي في المراسلات، وكان الخديوي سعيد قد أبطل استخدامه في المكاتبات الرسمية واستبدله بالتقويم الميلادي الغربي تقربًا للأجانب منذ أول يناير سنة 1856 م.

طالت أيام عزلته، وكاد الاتحاد بين الكنيستين القبطية والروسية يتم لولا أن محافظ مصر استدعاه إلى الديوان لأمر عاجل. أرسل مرة ومرتين وفي المرة الثالثة اضطر للنزول، لكن لحقت به حُمى فجاءوا إليه بطبيب، لكن سعيد باشا أرسل إليه طبيبه الخاص. أجمع الكُتاب بأنه دسّ له سُمًّا في الدواء، ففقد رشده وسقط شعر رأسه ولحيته على وسادته وانحل جسمه ومات.

قال الإيغومانوس فيلوثاؤس أنه لم يقبل السُم في القهوة إذ سمعهم يتحدثون بالتركية وكان يعرفها. نجا البطريرك ومات القمص وكيل البطريركية، وانصرف البابا إلى قلايته حزينًا، فأثر فيه الحزن.

دبّروا أمر قتله عن طريق خيانة طبيب فرنسي ووكيل بطريرك الأرمن صديق البابا، وتم لهم ذلك إذ دسّوا له السم في الدواء وفعلًا نجحوا في التخلص منه، وكان وراء ذلك كله إنجلترا التي خشيت هذا الرجل البسيط والمصلح الكبير.

استودع هذا البابا العظيم روحه الطاهرة يوم الأربعاء 30 يناير سنة 1861 م. بعد أن قضى على الكرسي المرقسي سبعة سنوات وثمانية أشهر، وقد كان لانتقال البابا رنة أسى وحزن كبيرة في أنحاء الوادي والسودان وأثيوبيا، وكان تجنيزه باحتفال مهيب حضره كبار رجال الدولة ورؤساء الكنائس المختلفة، ومن عجب أن وكيل البطريركية الأرمينية الذي ساهم في التعجيل بحياته رثاه مرثية قوية باللغة التركية وسط الجمع الحاشد. وقد دُفن جثمانه الطاهر في مقبرة جديدة كان قد أعدّها لنفسه بين الكنيسة المرقسية الكبرى وكنيسة القديس إسطفانوس.

0 التعليقات